مُحرّم: الشّهرُ العربيُ الأحمَر بقلم الكاتبة المبدعة فاطمة رشيد الاسدي
قرّر الحُسين أن يكون تيارُ كِفاح ولن يتراجع، مهما حصل فإنّه شخص يزيد لا يُبايع، ذلك الّذي صفاته الفِسق والخَمر وقَتل النّفس المُحرمة، لا يتناسب مع سبطِ النّبي الّذي هو سيّد شباب أهل الجنّة، فشرط القائد أن يكون عادلًا، مُحترمًا إرادة الأمّة، وملتزمًا بسيادةِ القوانين، تلك السّمات الّتي يتحلّى بها محمّد وآله الكرام (صلوات الله عليهم)، لا متسلّطًا، و أسيرًا للملذّات، ومستغلًّا للمنصبِ من أجل الثّراء، تلك الصّفات الّتي تَسري في أرواحِ بني أميّة، وبعد الرّفض المُتتالي من أحباءِ الإمام (عليه السّلام) لخروجه من مدينتهم المنوّرة وخلّوها من شخص الحُسين (عليه السّلام)، الّذي لا مثيل له في عصره، فقد كانت الآمال تُعقد عليه والأفئدة تتعلق به، لأنّه القوة الّتي تستطيع أن تُجابه السّلطات الباطلة، فقد سارَ الإمام بركبهِ مودّعًا أهله وأصحابه ثم قبر جدّه الرّسول (ص) بعد إن صلّى ركعتين عند القبر وناجى ربّه قائلًا: "اللهمّ هذا قبر نبيك محمّد (ص)، وأنا ابن بنتِ نبيكْ (ص)، وقد حضرني من الأمرُ ما عَلمتُ، اللهمّ إني أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلّا ما أخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى"، كان عازمٌ، ومواظبٌ، وقائدٌ حازمٌ لا يلين، ثمّ اتّجهت الكوكبة الرّائدة إلى مكة، تقطعُ الفيافي والبَواد، حيث طريق الجهاد والشّهادة، والحُسين (عليه السّلام) يقرأ قول الله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص، ٢١]، وبقت ديار عليّ وفاطِمة (عليهما السّلام) في المدينة تُطوّقها وحشة الفراق والغربة، ونفوسٌ يغيّم على سمائها الحزن والأسى، خَلت شرفات دار الآل مظلمة، بعد إن كانت تعمَر بالصّلوات والعبادة، ورغم ذلك فإنّها بقيت معلمًا من معالم المقاومة، يندبها الشّعراء ويناجيها الأدباء..
وحينما وصل الحُسين (عليه السّلام) مكّة المكرّمة جعل يتلوا هذه الآية: {وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ} [سورة القصص، ٢٢]، واستقبلوه أهلها فرحين به، وهنا تناقلت الرّسائل والكتب من أهل الكوفة للإمام (عليه السّلام) بما فيها من صرخات المناشدة والتّضرّع: "فإنّ النّاس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، والسّلام عليك"، وقام إمامنا بإرسال الكتب لهم ودعوَتهم للثّورة على أصحاب الظّلم والتّحايل، وبناء الدّولة الّتي تقوم على أسس رصينة كالقرءانِ الكريم والسّنة النبوية الشريفة، واستبشرت الأمّة بتحركهِ (عليه السّلام) حتى دبّت روح الثّورة في العراق، وكان من كتبه (عليه السّلام) إلى أهل الكوفة يطالبهم فيه بوحدة الكلمة والوفاء بالعهد، لأنّ لهم قصصًا وتجاربًا مع الخذلان أيام الإمامين عليّ والحسن (عليهما السّلام) لا تُنسى، واختار لذلك ممثله ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السّلام) يتابع الأخبار ويمهّد للبيعة والقيادة، وحين وصل مسلم إلى الكوفة بدأ يجمع الأنصار ويأخذ البيعة من آلاف المُوالين، ونقل صورة حيّة عن هذا الموقف الّذي يُبيّن صدق الدّعوة إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام)، ولمّا أحس مُساندي الحزب الأموي في الكوفة بضعف النّعمان والي الكوفه وضياع مكانتهم السّياسية والاجتماعية والاقتصادية طلبوا من يزيد بن معاوية أن يعيّن والي أكثر منه قوة وبطش، فاختار الأخير بعد المشاورة عبيد الله بن زياد الّذي كان أنذاك واليًا على البصرة، وبعد ذلك ذهب ابن زياد إلى الكوفة ورأى كيف النّاس مستعدّة ومرحّبة بقدوم الحُسين (عليه السّلام) إليهم، فأخذ يهدّد أهل الكوفة ويفرض العقوبات على كل من يبقى متمسّكًا برأيه ويظهر نصرته وانتظاره للحُسين (عليه السّلام)، وهكذا بدأت الأحداث تتخذ مجرى آخر وموقف مسلم (عليه السّلام) يهتز ويضطرب، وأصبحت الكوفة في صراعٍ دموي رهيب بين الفريقين، والأخبار تتناقل والخوف يسيّطر على الثّوار ومطاردة مسلم (عليه السّلام) وأعوانه مستمرة، وخلال هذه الأحداث فإنّ مسلم بن عقيل وبعض ممّن بايعه قد برزوا لقتال عبيد الله بن زياد في قصره بعد إن اعتُقل الصحابي هانئ بن عروة على يده، وذلك لأنّه جعل داره مركزًا لتواجد الثوّار وقيادة النّهضة، فانتهى الصّراع بانسحاب مسلم (عليه السّلام) بعد إن اثخن بالجراح، وبمرور الوقت قد اعتقل ابن زياد الكثير من القادة و الثّوار والمُوالين ورمى بهم في السّجن وقتل الكثير ومنهم هانئ بن عروة الّذي قطَعوا رأسه، حتى بقيَ سفير الحُسين (عليه السّلام) وحيدًا، يعاني من الغدر الذي ترعرع في نفوسٍ لا يُطفئ نار حقدها وبغضها الّا العداء بشتّى وسائل الضعف والتمرّد، وأمسكوا بمسلمٍ في دار طَوعة، المرأة التي خلّد التأريخ دَورها البطولي، قاتلهم مسلم بن عقيل (عليه السّلام) قتال الأبطال حتى جرّدوه من سيفه وطبّقوا عليه حكم ابن زياد (لعنة الله عليه) أن اقطعوا رأسه وألقوا به من أعلى الإمارة. واستشهد (سلام الله عليه) دفاعًا عن الحقِ وحقوق المظلومين يوم (٩ ذي الحجة سنة ٦٠هہ)، ثمّ امتدّت سيوف الجلّادين إلى قتل الكثير من المُوالين، وهكذا ابتدأ نهر الدّم يجري بدماء الآل وأعوانهم.
أمّا عن ركبِ الحُسين (عليه السّلام) بعد الاطمئنان من الكتب الّتي وصلت إليه فقد تهيأ للرّحيل إلى الكوفة تاركًا مكة، رغم مناشدة أهلها الكثيرة لأبي عبد الله (عليه السّلام) للعدول عن رأيه والبقاء معهم، اعتذر (عليه السّلام) من البقاء بسببِ الخطر الذي يداهم الإسلام، كان ذلك يوم التروية (٨ ذي الحجة سنة ٦٠ هہ)، وراحوا يتجاوزون الصّحاري والظّلام، والعزيمة قائمة في نفوسهم، والرّكب ماضٍ رغم تكرار القول ممّن فاضت قلوبهم على الحسين وآله (ارجع يا بن رسول الله )، لكنّه واصل المسير وفي قلبه شوق لمعرفة الأوضاع وطبيعة الرّأي العام في العراق، حتى صادفه الشّاعر الفرزدق في موضع يقال له *الصّفاح* فسأله (سلام الله عليه) عمّا كان في قلبه فوصف له الفرزدق الحال بقوله: "قلوب النّاس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السّماء، والله يفعل مايشاء"، فقال الحُسين (عليه السّلام): "صدقت، لله الأمر يفعل مايشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان، وإن حال القضاء دون الرّجاء فلم يعتد من كان الحق نيّته، والتّقوى سريرته".
وفي موضعٍ أسمه *زُبالة* وصل خبر استشهاد رسوله مسلم بن عقيل (عليه السّلام) وقد اعترى اليُتم والمُصاب قافلة الحسين عامّة وآل عقيل خاصّة، وكانت أول رزية لهم حتى أخذوا ينحبون عاليًا، فقد علِم الحُسين (عليه السّلام) بالانتكاسة ونقض العهود الّتي تضمّنتها الكتب والرسائل الّتي أرسلت إليه، فراح يخطب في من معه وكأنّه الشّمس ومن حوله الكواكب الّتي تستمد منه الطّاقة والأمل والحُب الإلهي والصّبر، فتفرّق عنه يمينًا وشمالًا بعض الأعراب الّذين ظنّوا بإنّ الأمور استقامت له وصفا له الجو، ولم يبقَ معه سوى أهله وخاصّته الّذين جاءوا برفقته من مكة، وعندما لاحت خيوط الضّياء تحرَّك القِطار وواصل السّير حتى وصل موقعًا يسمى *شراف* فأمرهم الإمام أن يكثروا من استسقاء الماء فاستسقوا وساروا عنها حتى واجه بنو هاشم وأصحابهم جيشًا بقيادة الحُر بن يزيد الرّياحي الّذي أمر بمحاصرة الحُسين والتضييق عليه حتى يَحول دون الوصول إلى الكوفة، قام الإمام (عليه السّلام) يُخاطب الفريقين ويذكّرهم بالكتب الّتي أرسلوها والمواثيق التي خطّوها لكنهم سكتوا ولم يرّدوا على الخطاب، ومع ذلك فقد منع الحر أن يسير الرّكب، وقد كثر الكلام بينه وبين الإمام الحُسين (عليه السّلام) فقال له الإمام: ثكلتْكَ أُمُّك ما تريدُ؟ قال الحرُّ: أما والله لو غيرك من العرب يقولُها لي وهو على مثل الحال الّتي أنتَ عليها ما تركتُ ذكرَ أُمِّه بالثّكل أنْ أقوله كائنًا مَن كان، ولكنْ والله مالي إلى ذكر أُمِّك من سبيل إلّا بأحسنِ ما يُقدرُ عليه، حيث كانت بذرة حُبٍّ للزهراء (سلام الله عليها) في فؤاد الحُر، وقد أمر الحر بأن يتخذ الإمام طريقًا لا يوصله للكوفة ولا يرجعه للمدينة، فانطلق الموكب وتباعد عن جهة الكوفة حتى وصل أرض نينوى وبدأت الأحداث تتحرك متسارعة وفيها هبّت نذر العاصفة، وأتى رسول يزيد بكتابه إلى الحر أن يوصل الحُسين وآله إلى العراء في غير خضر وعلى غير ماء، وأصرّ (سلام الله عليه) على مواصلة السّير وأن يحط رحاله حول سرادق الشّهادة في أرض كربلاء وهو يقول في نهاية خطبته: "إني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا بَرما" أي (ملل وكراهية).
أخذ القضاء بزمام الموكب إلى حيث المثوى فاعترضهم الجيش الأموي على بُعد خطى قليلة، فنزل الإمام الحُسين (عليه السّلام) وراح يسأل: ما اسم هذه الأرض؟ فقيل له: أرض (الطّف)، فقال: هل لها اسم غير هذا؟ قيل اسمها كربلاء، فقال: "اللهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء"، ثم قال: "هذا موضع كرب وبلاء"، انزلوا: ها هنا محطّ رحالنا، ومَسفَك دمائنا، وها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدّي رسول الله (ص).
فسوّلت نفس عمر بن سعد بالرّضا على نزاع الحُسين (عليه السّلام) ليحظى بالمكانة التي وعده بها عبيد الله بن زياد بمعونة شمر بن ذي الجوشن (لعنة الله عليهم)، وقاموا بتطويق الحُسين (عليه السّلام) في (7 محرم سنة 61 هہ) من جانب الفرات للحؤول بين آل الرّسول وبين الماء ليموتوا عطشًا أو يستسلموا، لكنّ في هذا اليوم استطاع أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) وبعض الفرسان من منازعة قوم العدو على الشريعة حتى أزالوهم منها و تمكنّوا من ملء قربهم بالماء و إيصالها إلى معسكر الإمام (عليه السّلام) بعد إن اشتدّ بهم العطش، حتى سمّي العبّاس بعد هذا موقفه بــ(ساقي العُطاشى) وابتدأ الزّحف الآثم عصر التّاسع من شهر المحرّم الحرام يلَوحون بالسّيوف والرّماح، وأما الحُسين (سلام الله عليه) يجول في آفاق الطّف وترتسم أمامه لوحة المشهد وفصول المعركة والشّهادة، وقد عرض العباس طلب أخيه الحُسين (عليهما السّلام) على قائد الجيش الأموي بأن يمهلهم الليلة *ليلة عاشوراء* ويعطيهم قراره الحاسم غدًا، ما كان قرار التأجيل لغرض التفكير في الأمر لأنّه كل شيء بدا واضحًا أمامه، إنّما أرادها أن تكون ليلة عبادة وصلاة، ليلة وداع ووصية، ليلة حديث للأهل والأحبة، وقبل المغيب وقف روحي له الفداء مخاطبًا أهله وأصحابه بأنّ القوم لا يريدون قتل سواي، ويقدر كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظّلام وينجو، لكن رفض الجميع ذلك وأصرّوا على القتال والفداء بنحورهم وجباههم وأيديهم، وباتوا تلك اللّيلة ضيوفًا في كربلاء، وباتت سيوفهم تتهيأ لتهز عرش التأريخ بذلك الحدث المُفزع وينبوع الدّم المُطهّر.
قبل بدأ المعركة قام الحُسين (عليه السلام) بتحصين مخيمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النّار ليمنع الالتفاف من الخلف ويحمي العيال من العدوان، نظر الشمر إلى النّار وهي تشتعل فصاح "يا حُسين استعجلت النّار في الدّنيا قبل يوم القيامة؟ فردّ عليه أنت أولى بها صليّا"، حاول صاحب الحُسين مسلم بن عوسجه (عليهما السّلام) أن يرمي الشّمر بسهم فاعترضه الحُسين قائلاً: (لاترمهِ، فإنّي أكره أن أبدأهم)، سلام على قلبك ورحمتك سيّدي يا حسين فهذه قيم آل محمّد حتى في أحلك الظروف.
في صباح يوم عاشوراء نظر الحُسين (عليه السّلام) إلى الجيش الزّاحف وهو شامخًا لم يتزعزع وهانت الدنيا في عينه وتصاغر الجيش أمامه فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:
لبسوا القلوبَ على الدّروع وأقبلوا يتهافتون على ذهابِ الأنفسِ
وراح (سلام الله عليه) يناجي ربّه قائلاً: "اللهمّ أنت ثقتي في كُلِّ كَرْبٍ، وأنتَ رجائي في كُلِّ شدَّةٍ، وأنتَ لي في كلِّ أمرٍ نَزَلَ بي ثِقة وعُدَّة".
استعد الإمام (عليه السّلام) للقتال ونظّم صفوفه، فجعل زهير بن القين على الميمنة، وحبيب بن مظاهر على الميسرة، وهم في القلب (الوسط) وأعطى رايته لأخيه العباس بن علي، وقف الحُسين (عليه السّلام) مع عددًا من المقاتلين، على الرغم من عدّتهم القليلة، لكنّ عزيمتهم فذّة وأهدافهم كبيرة وآثارهم واسعة في مسار الأمّة والتأريخ، وأمام ألوف مؤلفة من جيوش وفرسان عمر بن سعد، وقف يخاطبهم (صلوات الله عليه) ويعرّفهم بنفسه، يذكّرهم بوعودهم في كتبهم، وينصحهم، لكن لم يستجب له إلّا الحر بن يزيد الرّياحي الّذي أينعت ثمرة حبه لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) فأودت به إلى اجتياز المسافة بين الجنّة والنّار ليكن موقفه خالدًا عبر التأريخ، حيث انضم الى جيش الحق في آخر سويعات حياته وجاهد مع الحُسين (عليه السّلام) حتى استشهد دونه، وهكذا أضرم عمر بن سعد نار الحرب ووجّه السّهام نحو مخيم آل الرّسول (ص)، عظم الموقف على الحُسين (سلام الله عليه) ثمّ خاطب أصحابه: "قوموا رحمكم الله إلى الموتِ الذي لا بُدَّ منه، فإنَّ هذه السهام هي رُسُلُ القومِ إليكم"، فلا أحد تراجع من رجاله لا شاب ولا غلام ولا شيخ، بل استجابوا ولبّوا النّداء وانطلقوا كالأُسود الضّواري يلتحمون مع العدو بكل قوة وبأس، يتسابقون للشّهادة واحدًا تلو الآخر، حتى وقعوا في تلك الأرض الجدباء يسبحون في بركِ الدّم، وقد حزّ موقف صراخ الأطفال وعويل النّساء الثّكالى ولوعة اليتامى وصيحات العطش المتعالية في نفسِ الحُسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السّلام)، فطلب العبّاس الأذن من الإمام الحُسين حتى يبارز لقتال الأعداء ويسقي العطاشى، فأذن له الإمام أرواحنا له الفداء، برز بطل العلقمي حتى حال بينه وبين الماء عسكر بنو أميّة، فسقط العباس المِقدام الشّجاع حامل اللّواء وكافل زينب وعضد الحُسين في ميدان الجهاد منغمسًا بدمه، وقد كان لقتله أثرًا بالغًا ووجلًا كبيرًا في نفوس بنات الرّسالة.وقد بَقيَ أبي عبد الله الحُسين (عليه السّلام) وحيدًا بعد مصرع أهله وأصحابه، وما له إلّا أن ينازل القوم بنفسه ويدخل المعركة مبارزًا بشجاعته، وقلبه يفيض حزنًا وحبًّا وخوفًا على أهل بيته، وحَرمه، وقبل استشهاده فقد عصر بني اميّة (لعنة الله عليهم) فؤاد الحُسين بولده الرّضيع، حيث ضربه حرملة (لعنة الله عليه) بسهم في عنقه ففارق الحياة وهو بين يدي أبيه، وراح يجمع دمه بكفّيه ويرفعه شاكيًا إلى الله مناجيًا إيّاه: (هَوَّن عليَّ ما نزل به إنّه بعين الله).
حتى نزل الحُسين (عليه السّلام) حاملًا سيف رسول الله (ص) وبين جنبيه قلب علي، وبيده راية الحق، وعلى لسانه كلمة التّقوى، فقد تلّقى ما تلّقى من ضربات السّيوف، طعنات الرّماح، ورمي السّهام والنبال، وقعَ (صلوات الله عليه) مقطّع الوصال، ولم يكتفوا بذلك فقد نحروه، وقطَعوا رأسه، ورؤوس الآل والأصحاب، وهكذا بدأ شلال الدّم يسري في أرضِ الغاضرية وغيوم المآسي تلوح في آفاقها، حتى انجلت الغبرة، وهدأ صهيل الخيل، وأغربت الشمس، وسرى حفيف الرّياح يُغطي بالرّمال الأجساد الزّاكية التي ركلتها حوافر الخيل، وعبثت بها شفرات السّيوف، وبعدها اقتحمت العساكر الوحشية الخيام التي تخلو من الرّجال فقط النّساء الفاقدات واليتامى وعلي بن الحُسين السّجاد (عليه السّلام) الّذي أوقع به المرض، فأسرّوهم، وأخذوا يشتمونهم، ويضربونهم بالسّياط، ويتنقلون بهم هنا وهنالك و معهم الرؤوس الّتي قُدمت هدية إلى عبيد الله بن زياد (عليه اللعنة أبدًا).
يا لروعة المشهد وعظم المصيبة والبلاء على سيدتنا زينب (عليها السّلام) الصّابرة المُحتسبه الثّكلى بأحب الناس إليها، القائلة بعد هول المصائب: "مارأيتُ إلّا جميلًا"، القائمة ليلها، الذاكرة لله في أقسى ليلة تمرّ بها، السلام عليها الحوراء الأبيّة.
ماتت ضمائر الأعداء والحاقدين الّذين طمرهم التّراب ولم يبقَ لذكرهم سوى اللّعن عليهم وخزي موقفهم، أمّا المَوكب الحُسيني ولوحة الطّف الحَمراء الدّامية فقد خلّدوا خلود شهادة، يذكّون روح الثّورة والكفاح، وكانوا مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} [سورة التوبة، ٢٠].
فــاطِـمـة رشيـد الأسـدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق